قال سبحانه وتعالى (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ فرقْنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقْنا آل فرعون وأنتم تنظرون * وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون (52)) [البقرة] .
لا زال الحديث مع بني إسرائيل ، ولا زال الخطاب لبني إسرائيل ، حيث يحدثهم الله بنعمه عليهم فيناديهم قائلا :
أما نجيناكم من آل فرعون ؟
أما واعدنا موسى وأعطيناه التوراة لمصلحتكم ؟
أما عفونا عنكم ؟
أما فرقنا بكم البحر ؟
أما فعلنا وفعلنا ؟
فلماذا هذه الجرائم ؟ ولماذا هذه العظائم ؟
فهي - ولله المثل الأعلى – كأن تؤدب ابنك ، فتقول : أما علمتك ؟ أما بنيت لك بيتا ؟ أما اشتريت لك سيارة ؟
وفي هذه دروس أولها :
مجمل القصة أن موسى ، عليه السلام ، يقاتل قتالا بريا وبحريا ، وصراعا ميدانيا وعلميا ، يرسله الله أي فرعون في ديوانه ، وفي إيوانه ، وفي قصره،ويجعل معه أخاه هارون ؛ لأنهم افصح منه لسانا ،وهو لا شك افضل من أخيه .
وقال بعض المؤرخين بأن هارون أكبر منه بسنة ، ولكن الله اصطفاه دونه .
فقال له : (اذهب إلى فرعون إنه طغى ( طه 24 ) قال: (قَال رب اشرح لي صدري (25)) لأنهم أمر صعب وتكليف لا يحتمله .
تخيل انك راعي غنم ،ومعك عصا تهش بها على غنمك ، ثم تكلف بالدخول على طاغية من طغاة الدنيا ، هو فرعون حاكم مصر ، وحرسه كما قال أهل العلم : ستة وثلاثون الفا ، منتشرون في كل مكان ،بجوار القصر وخارجه وداخله.
قال : (قَال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري (26)) ما أحسن الدعاء ! الله هو الذي ألهمه أن يدعو بهذا الدعاء ، (واحلل عقدة من لساني (27)) يا رب أنت تعلم أن لساني يتلعثم فحله لي .
قال الحسن البصري : رحم الله موسى ، ما سأل إلا أن تحل عقدة واحدة من لسانه .
وسبب طلبه من الله أن يحلل هذه العقدة ؛ كما قال موسى : (يفقهوا قَولي) ليفهموا قوله ويفقهوه ، ولم يقل : اجعلني اعظم خطيب في مصر ، ولا افضل متحدث في مصر ، ولكن (يفقهوا قَولي) فقط لأبلغ الرسالة.
(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29)) يساعدني ، ويكون من أهلي ؛ لأنهم لو كان من غير أهلي ربما كان حاقدا أو حاسدا .
ثم عينه باسمه ؛ لان اهله كثيرون ، كبار وصغار وأبناء عمومة وأقارب فقال : (هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري (32) كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا (35)).
فجاء الجواب مباشرة (قَال قَد أوتيت سؤلك يا موسى (36) لم يقل سؤالاتك ، لأنها سؤال واحد في علم الله (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)[يس ]
(ولقد مننا عليك مرّة أخرى (37) فبدأ الله من هذه الآية يذكره بشريط حياته ، وبتلك النعم التي أسداها له في الماضي لعله يتذكرها ولا ينساها ، فيشكر ولا يكفر .
لما ذهبا واصبحا في عرض الطريق أوصاهما الله بأدب الدعوة ، فقال : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44))انتبهوا من الخبيث لينوا في الخطاب ، وعليكم بالأسلوب السهل ، والله يعلم في علم الغيب أن فرعون لا يؤمن فهو من أهل النار .
لماذا ؟
(ولو علم اللّه فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون (23))[الانفال]
فيقول موسى وهو في الطريق وفرائصه ترتعد ، فهناك أمامه سيوف ورماح وخناجر ، وجيش وأسطول ، وفرعون وهامان وقارون ،فقال هو وأخوه : (قَالا ربّنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) (طـه:45) أي : أن يستعجل بالعقوبة أو أن يطغى في الحكم.
قال الله – وما احسن العبارة - ( إنني معكما أسمع وأرى)(طـه: من الآية46) .
لا إله إلا الله انتم في الإيوان ،وعلمي معكم .
انتم في الصحراء ، وأنا معكم بعلمي وإحاطتي .
انتم في البحر وأنا معكم بعلمي (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا)[المجادلة 7]
الله معكم بعلمه و إحاطته وشهوده.
الزم يديك بحبل الله معتصما فانه الركن إن خانتك أركان
ثم كان اللقاء التاريخي المشهود بين فرعون رئيس الضلالة ، وبين موسى كليم الله ، فكان ما كان من إظهار الحجة أمامه ، ومشاهدته لمعجزة العصا واليد .
ففكر وقدر ، فاختار المبارزة في الميدان أمام الجموع الهائلة والحشود الضخمة ، لتكون النهاية الفاصلة : إما الهزيمة ، وإما الظهور في الأرض .
فتواعدا ضحى يوم الزينة ،وهو يوم العيد الأكبر عندهم .
فجاء السحرة من كل مكان تلبية لسلطان الزمان ، وربهم الأعلى فرعون ، واصطفوا متهيئين للانقضاض بسحرهم على عصا موسى ؛ التي سمعوا بها ، وما رأوها ، وظنوها كحبالهم التي معهم .
فاختار موسى أن يلقوا هم بالأول لكي تكون الخاتمة له ، وهذا من حكمته أن يجعلهم يخرجوا ما في كيدهم ،وآخر ما عندهم من حيل ومغالطات.
ثم يأتي هو فيقصم ظهرهم بعد أن عرف منتهاهم .
فألقوا حبالهم ، فكانت تتراقص كالحيات ، وهذا أقصى ما لديهم أن يجعلوا الحبال تتراقص ويسحروا أعين الناس بها .
فألقى موسى عصاه بعد أن داخله شيء من خوف طبيعي ينتاب البشر لما رأى حياتهم الكثيرة .
فقال له تعالى : (لا تخف إنك أنت الأَعلى)(طـه: من الآية68) الأعلى مكانة ، والأعلى حجة وغلبة .
فالقى العصا ، فأخذت تلتقم سحرهم وحبالهم واحدة تلو الأخرى ، فدهش السحرة ؛ لأنهم لم يروا في حياتهم منظرا كهذا ، قد خبروا السحر وعلموه ، ولكنهم في حياتهم كلها التي ضاعت بين تلكم الخزعبلات لم يشاهدوا كمثل هذا اليوم .
فعلموا انه ليس بسحر ، وإنما معجزة من رب الأرباب .
فخروا سجدا لله رب هارون وموسى.
فكانت النهاية الأليمة لفرعون وحزبه ، عندما انهارت على رؤوسهم الحيل والتدابير .
فلما سقط الخيار الجدلي ، كان لا بد عند فرعون أن يختار الفصل والحسم العسكري ، أمر بمطاردة موسى وقومه بعد أن تشاور مع وزرائه ، فأتوه بذلك لكي لا يكسب مزيدا من الناس حوله .
فخرج فرعون بجيش قوامه كما يقال ألف ألف ، وأما موسى فلم يكن معه إلا بني إسرائيل من الأطفال والنساء وقليل من الرجال ، ولكن الله معه.
فلما بلغ موسى وقومه البحر رأوا عجاجة في السماء ، فالتفتوا فإذا فرعون وجيشه ، وقد اقتربوا منهم ، فجزعوا وهلعوا من الموقف ، فالبحر أمامهم ، وفرعون وجنوده من خلفهم .. فأين المفر .
أما موسى فقد علمه الله طيلة تلك السنين انه ناصره في كل موقف .
فأصبح هذا عنده عقدية ويقينا فقال : (قَال كلا إن معي ربي سيهدين (62)
أي : لن يضيعني في آخر الجولة بعد أن كان معي سابقاً.
فاقترب موسى من البحر وضربه بعصاه انفلق ، واصبح كالجبل العظيم ، وحسر عن القاع وبنو إسرائيل ينظرون مبهوتين دهشين من هذا المنظر .
فأمرهم موسى بالدخول في البحر والمضي ، بعد أن جعله الله طريقا يابسا ، فسلكوه وهم لا زالوا في عجبهم .
وأما فرعون فانه اقترب من البحر ولم يعثر على موسى وقومه ، وإنما شاهد هذا المنظر الغريب الذي يشاهده لأول مرة ، فتقهقر في البداية .
وفي هذا الموضع يورد المفسرون بعض الأخبار الإسرائيلية التي لا باس بالاستئناس بها؛ لأنها لا تعارض نصا عندنا ، وإنما هي من جملة الأخبار .
قالوا : إن فرس فرعون رأى بغلة في البحر ، قيل : بغلة كان يركبها جبريل فأرادها ، لأن الفرس يهيج عند رؤية البغلة ، فاقتحم بفرعون البحر ، فتبعه الجنود لأنه قائدهم ، فلما اكتملوا في وسط البحر انصك عليهم واضطرب ، فقتلوا جميعا جزاء نكالاً.
فقال فرعون في اللحظات الأخيرة : (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل)[يونس :90] .
ولكن لم ينفعه ذلك (آلآن وقَد عصيت قَبل وكنت من المفسدين (91))[يونس 91] فلفظه البحر جثة ميتة ليراها من خلفه ، ويعلموا انه رجل حقير لا يستحق أن يجعل ملكا ، فضلا عن أن يجعل ربا الها .
فقال تعالى مذكرا بني إسرائيل بهذه النعمة العظيمة عندما اهلك عدوهم الطاغية فرعون وآله وجنوده (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (49))[البقرة] .
والنجاة معنوية وحسية :
فالحسية أن تنجو من العذاب ، ومن السجن ، ومن المرض.
وأما المعنوية فان تنجو من الفسق ، ومن المعصية ، ومن المعتقدات الباطلة.
يقول حسان رضي الله عنه ، في هجو الحارث بن هشام ، الذي كان من سادات قريش:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الاحبة أن يقاتل دونهم ونجا بفضل طمرة ولجام
أي : انه فر يوم بدر على خيل له ، وترك أهل بدر من المشركين يقتلهم المسلمون ، فلم يدافع عنهم .
وقال معاوية ،رضي الله عنه :
نجوت وقد بل المرادي سيفه من ابن أبي شيخ الأباطح طالب
أي :أن الله نجاني يوم مقتل علي ، رضي الله عنه ؛ لأن الخوارج كان في مخططهم أن يقتلوا عليا ومعاوية وعمرو بن العاص ، رضي الله عنهم جميعا ، ولكنهم لم يستطيعوا إلا قتل علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، لحكمة قدرها الله .
فقال معاوية هذا .
قوله ( يسومونكم سوء العذاب ) يعني: تلقون منهم شدة ومشقة وعنتا ، وهو اشد العذاب لا اقله .
يقول عمرو بن كلثوم في (( معلقته ):
إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا
يقول هذا عندما ذهب هو وأمه إلى عمرو بن هند ، فقال أم عمرو بن كلثوم لأم عمرو بن هند : ناوليني هذا الطبق ، تريد إذلالها .
فرفضت ، فضربتها كفا على وجهها ،فصاحت تنادي ولدها وتولول ، فقام ابنها وقتل عمرو بن هند ،وقال معلقته في تلك الساعة .
فكان الإسرائيليون خدما عند أهل مصر في ذلك الزمان ، يقومون بالأعمال الحقيرة عندهم ؛ من كنس وطبخ وتحضير للطعام وهكذا .
(يذبحون أبناءكم )(البقرة: من الآية49) أي : بعد أن علم فرعون بواسطة السحرة ، انه سيقتل في مصر على يد طفل ذر لبني إسرائيل يولد بعد ذاك الزمان .
فأخذ لغبائه يقتل كل ولد يولد لبني إسرائيل ، ولكن الله تعالى بإرادته غلب إرادة هذا السفيه ، فجعل الله موسى يتربى في قصر فرعون اذلالا له وتحقيرا .
() وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)(البقرة من الآية49) ، أي : نقمة شديدة حلت بكم ، فلا تنسوها ولا تنسوا نعمة الله إذ نجاكم منها.
ولكنهم نسوا واعرضوا ، فلا زالوا في سخط من الله إلى اليوم